دروس الإيمان واليقين في أسرة سيدنا إبراهيم

هيا نتعلم من هذه الأسرة الطيبة المباركة، نتعلم كيف بنى سيدنا إبراهيم أسرته، وكيف ربَّى وعلّم وحافظ على أفرادها، وكيف تجاوزوا كل الصعوبات حتى ارتفع ذكرُهم وعلا شأنُهم.

5/24/20251 دقيقة قراءة

a group of people standing in front of a building
a group of people standing in front of a building

كلما هبت علينا نسائم الحج نتذكر سيدنا إبراهيم، نتذاكر سيرته العطرة، نتعلم من مواقفه وصفاته الكثير من الدروس والعبر . فقصص الأنبياء كلها هدى ورحمة للمؤمنين، "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".

وقصةُ أبي الأنبياء وإمامِ الحُنفاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، أشرف أُولِي العزم بعد نبيِّنا وسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، قصة مليئة بالآيات والعِظات، والعِبَر والدلالات.

لذلك يتوجب علينا أن نتعلم من السيرة العطرة لبيت سيدنا إبراهيم الطيب المبارك، ونرى كيف كان نجاحه، ونجاح أهل بيته في الابتلاءات الصعبة سببا في رفعتهم واصطفائهم حتى جعله الله إماما للناس، كما قال الله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربُه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما"

فرغم أنه نبي ورسول، ومن أولي العزم من الرسل، وهو خليل الرحمن، وهو أبو الأنبياء، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إلا أنه تعرض لابتلاءات تعد بمثابة "اختبارات موت" إن جاز التعبير، فابتلي في نفسه بأن ألقاه قومه في النار، ثم ابتلي بأن أمر بأخذ زوجته هاجر وولده إسماعيل إلى واد غير ذي زرع، ثم ابتلي بأن أمر بتركهم في هذا المكان، ثم ابتلي بأن رأى أنه يذبح ولده بنفسه، ورؤيا الأنبياء حق. حتى وصف الله هذا الموقف بأنه بلاء مبين، فقال الله تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين)

فما اتخذ الله إبراهيم خليلا إلا بعد أن اختبره اختبارا طويلا.

الجميل أنه في كل هذه الامتحانات الصعبة نجح سيدنا إبراهيم، ووفى وتمم وأكمل ما أُمر به وفُرض عليه.

تعالوا في هذا الوقت المبارك نتعلم من هذه الأسرة الطيبة المباركة، نتعلم كيف بنى سيدنا إبراهيم أسرته، وكيف ربَّى وعلّم وحافظ على أفرادها، وكيف تجاوزوا كل الصعوبات حتى ارتفع ذكرُهم وعلا شأنُهم.

- رأينا في قصة إبراهيم مع أبيه وقومه ومع النمرود أن الإسلام والدين هو الأساس المتين الذي تبنى عليه الحياة، والذي لا مساومة عليه، تزول الدنيا وتهون الدنيا، ولا يهون الدين عند المسلم.

- والسلامة كل السلامة في التسليم لله، فلا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم لله والاستسلام لأمره.

هاجر في مكة

حين جاء الأمر لسيدنا إبراهيم أن ينزل في مكة في وقت لم تكن فيه أي مظاهر للحياة البشرية هناك، وأن يترك زوجته وابنه في هذا المكان، كان سيدنا إبراهيم يعلم تمام العلم ويوقن تمام اليقين أن الله - الذي نجاه من الموت حرقا في النار بعدما ألقي فيها - يراهم ويسمعهم، وهو أعلم بهم وهو أرحم بهم، يدبر أمرهم، قادر على حمايتهم ورزقهم، وهو نعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير، ونعم المعين ونعم الضامن والكفيل.

أما السيدة هاجر عليها السلام فنتعلم منها دروسا كثيرة:

الدرس الأول: التسليم والطاعة

حين تركها إبراهيم ورضيعها في الصحراء، لا مأوى ولا طعام ولا ماء، فذهبت وراءه تسأل مستفهمة لا مستنكرة: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟، فأشار أن نعم، قالت: آههنا؟ فأشار أن نعم، قالت: "إذن لا يُضيعنا".

وصدَّقت هاجرُ ربَها فصدقها ربُها، وعاملها بنيَّتها وإيمانها وأتاها الجواب مطابقًا تمامًا لما قالته عند رحيل زوجها فها هي تسمع جبريل عليه السلام يُخاطِبها: "لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يُضيّعُ أهلَه".

والله لا يُضيِّعُ من اتقاه، ولا يُخيِّبُ من رجَاه.

النفسية المؤمنة

كان من الممكن أن تركن السيدة هاجر لطبيعة نفسية المرأة التي كانت ستدعوها للشعور بأنها ضحية ومظلومة ووحيدة وغريبة وضعيفة.

ولكنها تعاملت بنفسية المؤمنة التي لا تعرف كل تلك المشاعر السلبية، تعاملت بنفسية المرأة المؤمنة التي تغلب كل تلك المشاعر السلبية، فملأ الإيمان قلبها بكل المشاعر والمعاني الطيبة.

نفسية المؤمنة تملأ قلبها اليقين والتوكل والإسلام والاستسلام لأمر الله، والإيمان وبالرضا والأمل والتفاؤل، والطاعة والاستجابة لأمر الله.

ومن يتعامل مع الصعوبات بهذه النفسية يتغلب عليها ويغير التاريخ وهذا بالفعل ما فعلته السيدة هاجر بفضل الله وعونه.

استطاعت أن تتغلب على كل الظروف الصعبة، بل على أصعب الظروف والأحوال، تغلبت على الضعف البشري، وتغلبت على قسوة البيئة المحيطة، ولا يستطيع إنسانٌ أن يفعل ذلك إلا بالإيمان واليقين والرضا والتوكل.

فكان معها التوفيق في حياتها (وهذا التوفيق هو عملة نادرة يبحث عنه كل الناس ولكنه لا يشترى من المحلات والدكاكين ولا من المولات والمراكز التجارية، لا نستجلبه إلا من عند الله "وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب")

كان معها التوفيق من الله، ويظهر أثر هذا التوفيق في نهاية كل عمل، ونهاية كل رحلة، في نهاية العام الدراسي، في نهاية الحياة، تقطف ثمرة مجموع ما فعلته في الحياة.

بعض من يرفعون شعار حقوق المرأة ربما يرون في هذا ظلم لهاجر واضطهاد لها، وأن لها الحق في مسكن واسع ونفقة كريمة وأن تعيش حرة قوية مستقلة.. ولكن هاجر اختارت الطريق الذي في آخره النجاح والفلاح والفوز والتوفيق، طريق نالت فيه شرف أن يكون بيتها مجاورا لبيت الله، شرف أن تشارك في بناء البلد الحرام مكة، أن تشارك في وضع حجر أساس بناء بيت الله الحرام "الكعبة"، شرف أن تكون أما لنبي الله إسماعيل الذي سيكون من سلالته بعد ذلك خاتم الأنبياء وسيد البشر محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهذا التشريف العالي لا يُنال إلا من هذا الطريق طريق الإيمان واليقين، طريق السعي والتوكل، طريق العمل والصبر.

أما من يرفعون شعارات براقة وكلمات مزيفة مثل شعارات النسوية، ها هم في نهاية حياتهم يعترفون بالحسرة والوحدة والحرمان من الزوج والولد وهم في نهاية حياتهم بعدما ضيعوا شبابهم في اللهو واللعب بعيدا عن الدور الحقيقي للمرأة في أن تكون زوجة وأما، وباتوا يحاربون ما كانوا يدعون إليه في شبابهم من الأفكار النسوية التي تشقي المرأة ولا تسعدها. ويتاجر بها كل من يريد أن يسهل طريقه الحرام إلى المرأة، نعوذ بالله من كل هذه الشرور.

الدرس الثاني: الإيمان والتوكل

لقد جمعت السيدة هاجر بين ركني التوكل، في نموذجٍ عملي فريد:

أولهما، التعلق بالله وحده يقينا وإيمانا ووثوقا، لا لغيره مهما بدا مؤثرا، فلا يتعلق قلبك بسبب ولا قوة ولا إرادة ولا فعل

وثانيهما، الاستجابة لله وطاعته، بالسعي والعمل، تعبدا وترفعا عن دناءة التواكل، فتنهض للعمل، وتجد في السعي ، وتنشط للخدمة.

إنهما ركنا التوكل بحق، صفاء القلب، ومرؤته ، ولا عجب أن سمي هذان الجبلان بالصفا والمروة.

وحين بلغ الإيمان واليقين منتهاه عند السيدة هاجر، وحين بذلت أقصى ما وسعها من جهد وطاقة وسعي، هنا يتنزل النصر والرزق والفَرَج والغوث والمدد من عند الله، هنا في هذه اللحظة أَذِن اللهُ بأن ينفجر ماءُ زمزم من تحت قدمي سيدنا إسماعيل عليه السلام. كانت السيدة هاجر ترجو ماءً يكفيها هي وولدها فإذا يأتيها رزقٌ من الله يكفيها هي وولدها ويكفي أمما كثيرة من بعدها منذ ذلك وحتى يومنا هذا وإلى أن يشاء اللهُ، وهذه وحدها آية كبيرة شاهدة على صدق الأنبياء والمرسلين.

فما أعظم هذا اليقين، وما أجمل هذا البر، وما أحلى هذا الإيمان، وما أروع هذه الطاعة، يقينها بربها رب العالمين ، وبرها بزوجها الحبيب، الذي ليس له من الأمر شيء، إلاَّ أنه يؤمر فيطيع، وله الشرف العظيم في أن يؤمر ويطيع إذا كان الآمر هو الله سبحانه، رب السماوات والأرض وما بينهما رب العالمين .

لذلك خُلّد هذا الموقف ورُفع ذكر هذا البيت المبارك، ويتذكره الناس في كل عام، فتذاكروه وتعلموه وتعلموا منه، وعلموه لأولادكم وأهليكم، ليكون نبراسا يضيء لنا الطريق في الدنيا، ويعلمنا أن صناعة الحياة الطيبة تبدأ أولا بالإسلام والتوحيد والإيمان واليقين، والطاعة والاستجابة، ومحبة الله والتعلق به وحده.

وتخليدًا لذكرى هذا الجهاد وحسن التوكل على الله، جعل الله تعالى ما فعلته هاجر من السعي بين الصفا والمروة وهي تبحث عن الماء والطعام، شعيرة من شعائر الحج والعمرة {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ بِهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158).